التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كيف كانت المرحلة الثانية من حكم السلطان عبد المجيد الأول، وما أهم أحداثها؟
السلطان عبد المجيد الأول (1839-1861م)
إنَّنا يمكن أن ندرس فترة حكم عبد المجيد الأول الطويلة (اثنان وعشرون عامًا، من 1839م إلى 1861م) من خلال مرحلتين فقط؛ الأولى قصيرة، ولكنَّها شديدة الصخب، وهي أوَّل عامين من حكمه (من 1839 إلى 1841م)، وفيها أنهى الأوروبِّيُّون المسألة المصريَّة وَفق ما يريدون، والمرحلة الثانية طويلة تبلغ عشرين عامًا (1841-1861م)، ولكنَّها هادئةٌ رتيبةٌ لا تحفل بالأحداث الكبرى. وفي هذا المقال سنتناول الحديث عن المرحلة الثانية:
المرحلة الثانية: الدولة العثمانية بعد انتهاء المسألة المصريَّة (1841-1861م)
مع أن هذه الفترة تمتدُّ على مدار عشرين عامًا إلا أن أحداثها كانت هادئةً إلى حدٍّ كبير، ولم تشتعل إلا في فترتين محدودتين؛ الأولى في لبنان، والثانية ضدَّ الروس. لقد تخلَّص الإنجليز من كابوسهم المزعج في مصر، وأرغموا السلطان على تحديد جيش مصر بثمانية عشر ألف جنديٍّ فقط كما مرَّ بنا؛ ليمنعوا أيَّ فرصةٍ له للظهور، وتمهيدًا لاحتلال مصر مستقبلًا. عمومًا، هدأت الأمور في مصر تدريجيًّا، حيث قَبِلَ محمد علي باشا بالأمر الواقع، وكان قد كبر سنُّه، ومات ابنه إبراهيم باشا في حياته (1848م)، ثم مات هو شخصيًّا في 1849م وهو في الثمانين من عمره[1]، ولم يكن خلفاؤه على درجة نشاطه نفسها، فلم يُزْعِج وجودُهم الدولةَ العثمانية، خاصَّةً مع انتظامهم في دفع الخراج، وإعلان التبعيَّة، على الأقلِّ في فترة حكم عبد المجيد الأول.
يمكن دراسة أهمِّ ما حدث في هذه المرحلة من خلال أربع قضايا رئيسة؛ التنظيمات، والحرب الأهلية اللبنانية، وحرب القرم ضدَّ روسيا، والأزمة الاقتصاديَّة.
التنظيمات:
كانت إحدى أبرز سمات فترة حكم عبد المجيد الأول اهتمامه بتنفيذ الإصلاحات الداخليَّة التي كان أبوه السلطان محمود الثاني يريد تنفيذها في الدولة. حاول السلطان إعادة بناء الجيش بعد الكوارث التي أصابته في الفترة الأخيرة، ولكن الإصلاح الأبرز كان في مجال القانون والإداريَّات. كان هذا الإصلاح عن طريق إصدار قانونين رئيسين؛ الأول في عام 1839م، وعُرِفَ بمنشور الكلخانة Gülhane[2]، ولم يبدأ في تطبيقه بشكلٍ واقعيٍّ إلا بعد انتهاء الأزمة المصريَّة في 1841م، والثاني عُرِف بالخط الهمايوني Hatt-ı Hümayun، وصدر في عام 1856م[3] عقب حرب القرم. يمكنني تلخيص محتوى القانونين في بندين رئيسين؛ الأوَّل هو حماية حقوق الإنسان، والثاني هو تنظيم الحياة داخل الدولة وَفق المعايير الحديثة في العالم.
بذل الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا مع السلطان عبد المجيد الأول واسترشادًا بأفكار محمود الثاني، جهدًا كبيرًا في إعداد هذه القوانين، وفي تعريف الشعب العثماني بها[4]، ولأن هذه القوانين «تُنَظِّم» الحياة في الدولة فإنها عُرِفت في التاريخ «بالتنظيمات»[5]. تتباين آراء المعاصرين لهذه الفترة التاريخيَّة، وكذلك المؤرِّخين اللاحقين، حول تقييم هذه القوانين. قد يراها بعضهم وهميَّةً لم يُقْصَد منها إلا إرضاء الغرب المتسلِّط على الدولة، وبعضهم الآخر يراها مخلصةً تريد أن تُعيد للدولة هيبتها وقوَّتها. -أيضًا- قد يراها بعضهم تقليدًا أعمى للقوانين الغربيَّة الوضعيَّة، وتضييعًا للشريعة، بينما يراها آخرون غير بعيدةٍ عن روح الشريعة، بل ملتزمةٍ بها، وأن مرونة القوانين الإسلاميَّة تسمح بهذه التطوُّرات دون حرج.
الحقُّ أن الصواب بين هذا وذاك! بمعنى أن الجهود كانت مخلصةً للارتقاء بالدولة، وهذا منذ زمن سليم الثالث (1789-1807م)، ومرورًا بمحمود الثاني (1808-1839م)، والآن في عهد عبد المجيد الأول (1839-1861م)، وكذلك في عهد السلطان عبد العزيز (1861-1876م)، ومع ذلك فالمخالفات الشرعيَّة موجودة، ويمكن أن تكون كثيرة. سبب هذه المخالفات يكون أحيانًا ناتجًا عن ضعف الدولة وقبولها للضغوط من الخارج، وأحيانًا يكون بسبب عدم مشاركة العلماء بشكلٍ حاسمٍ في التغيير؛ إمَّا لرفضهم مبدأ التغيير على الأنماط الأوروبِّيَّة، أو لتجنيبهم عمدًا من جانب السلطان خوفًا من إثارة الإنجليز، والأوروبِّيِّين بشكلٍ عام، وإمَّا لشعور السلطان أن آراءهم صارت مكبِّلةً لخطوات الإصلاح. إنَّنا ينبغي أن نفهم أن هذه الإصلاحات القانونيَّة والإداريَّة تحدث في دولةٍ محتلَّةٍ بشكلٍ واقعيٍّ، وأنها تحدث في دولةٍ «منهارة»، وأن الهدف منها إطالة عمر الدولة شيئًا قليلًا، وليس إعادة الدولة كقوَّةٍ عظمى في العالم.
ذكرت بعضُ المصادر النصوصَ الكاملة للقوانين التي أُعلنت في هذه الحقبة[6][7][8]، وقد شملت عدَّة جوانب، وتُعتبر بمثابة مشروع دستور للدولة العثمانية، وكان فيها تنازلٌ من العائلة الحاكمة عن حقوقٍ تمتَّعت بها لقرونٍ طويلة، كما كان بها توثيقٌ للأفكار التي نادى بها المصلحون السابقون، كسليم الثالث، أو محمود الثاني، ويمكن ذكر أمثلةٍ منها على النحو التالي:
· توصيف الشعب العثماني بشكلٍ عامٍّ على أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، مساواةً تامَّة، ودون تمييزٍ بسبب الدين أو اللغة أو الجنس؛ ومنح الجميع حريَّة العبادة، وحماية أرواحهم وأملاكهم.
· عدم إنزال عقوبةٍ بأحدٍ إلَّا بعد محاكمته.
· إلغاء بيع الوظائف.
· تعديل سياسة الضرائب بما يُحقِّق التخفيف على الناس، وإلغاء نظام الالتزام.
· ضمان الحرِّيَّة الشخصيَّة؛ ومنع المصادرة والسخرة.
· تحديد طريقة الجنديَّة الإجباريَّة، وتعيين سقفها بخمس سنوات.
· زيادة رواتب الموظفين الحكوميِّين، وفي المقابل تجريم الرِّشوة.
· حرِّيَّة ممارسة الشعائر الدينيَّة في العلن، وبناء الكنائس والمعابد والمؤسَّسات الدينيَّة الأخرى -أي المقابر، والمدارس، والمستشفيات، والأديرة- دون العودة إلى الباب العالي في المناطق المسيحيَّة، وبموافقة السلطان في حال التجديد، أو استحداث هذه الأبنية في المناطق المختلطة.
· إصلاح السجون، ومنع التعذيب، أو أيِّ تصرُّفٍ معادٍ للإنسانيَّة.
صَاحَب هذه القوانين إصلاحات إداريَّة بهدف تيسير تطبيقها، وضمان حيادها، وحسن متابعة نتائجها. من ذلك مثلًا تسجيل إيرادات الدولة للمرَّة الأولى في سجلَّاتٍ رسميَّة[9]، ومن ذلك -أيضًا- تفعيل مجلس الأحكام العدليَّة الذي أُنشئ في آخر عهد محمود الثاني، الذي من وظيفته إعداد مشاريع الفرمانات ليقوم السلطان بإصدارها بتوقيعه[10]، وبالتالي يُعتبر هذا المجلس هو الشكل الأوَّل لمجلس النواب العثماني.
من الجدير بالذكر أن ردود الفعل لهذه التنظيمات كانت متباينةً بشكلٍ كبير؛ فقطاعٌ من العلماء هاجمها بقوَّة، واعتبرها علمانيَّةً تُلغي الشريعة[11]، وبعضهم استقبلها بسرورٍ بالغ، واعتبرها بداية وضع أقدام الدولة على الطريق الصحيح[12]. هذا الاختلاف يرجع إلى أن هناك قضايا كانت تُطرح للمرَّة الأولى في الدولة العثمانية، وكانت تُمثِّل فيها خصوصيَّةً غير موجودةٍ لا في البلاد الأوروبِّيَّة ولا في البلاد المسلمة، مثل قضيَّة المساواة بين أفراد الشعب، ووجه الخصوصيَّة هنا أن الشعب العثماني يشمل أعدادًا كبيرةً من النصارى، والمساواة هنا لا تُرضي أحدًا؛ فالمسلم في دولةٍ إسلاميَّةٍ يرى لنفسه الفضل الذي يرفعه في الحقوق على النصراني، والنصراني نفسه لا يُريد المساواة؛ لأن هذا يعني دخوله في التجنيد مثلًا، ويعني حرمانه من الامتيازات الممنوحة لبعض رعايا الدول الأوروبِّيَّة، ويعني إلزامه بدفع ضرائب قد تكون أعلى من الجزية في النظام الإسلامي[13][14].
بشكلٍ عامٍّ أسهمت التنظيمات في تيسير الأعمال الحكوميَّة، وفي سهولة تطبيق القوانين على جميع أفراد الشعب، وبصرف النظر عن قبول الناس لهذه التنظيمات أو رفضهم، كانت الدولة في نهاية عهد عبد المجيد الأول أفضل منها حين تسلُّمها، وإن كان هذا لم يُغيِّر من ضعفها شيئًا!
أيضًا ينبغي الإشارة إلى أن السلطان عبد المجيد الأول حرص على تحديث الدولة قدر الإمكان، ويُحْسَب له أنه أوَّل من أدخل التلغراف إلى الدولة العثمانية؛ حيث أُرسل التلغراف الأوَّل في 9 سبتمبر عام 1855م بين مدينتي شومن Shumen البلغاريَّة وإسطنبول، كما شهد العام نفسه إنشاء أوَّل خطِّ سكة حديد في الدولة العثمانية، وكان في البلقان بطول ستِّين كيلو مترًا بين كونستنجه Constanța (في تركيا الآن) وجرنافودا Cernavodă (في رومانيا الآن)[15].
الفتنة الطائفية في إمارة جبل لبنان: (1841-1861م)
لم تكن مساحة جبل لبنان كبيرة؛ فهو يُمثِّل الثلث الأوسط من لبنان الحديث، ومع ذلك مثَّلت إدارته صعوبةً تاريخيَّةً ملموسة، والسرُّ قد يرجع من جانبٍ إلى طبيعته الجبليَّة الصعبة، ولكن من جانبٍ أهم إلى التنوُّع الطائفي الكبير في سكانه، وخاصَّةً أن جانبًا كبيرًا منهم من الدروز والنصارى الموارنة[16]، ممَّا يُعطيه خصوصيَّةً عن بقيَّة أقاليم الدولة العثمانية. يزيد بالطبع من حجم المشكلة تواجد المسلمين -سُنَّة وشيعة- في المناطق المحيطة بالجبل شمالًا وجنوبًا، ممَّا يجعل هذا التوزيع الديموجرافي المعقد سببًا في مشكلات متعدِّدة.
تمكَّن العثمانيُّون من إدارة لبنان كلِّه بشكلٍ عام، عن طريق الوالي الذي يتولَّى أمر الجبل، وتغيَّرت العائلات التي تحكم الجبل تاريخيًّا، وكان آخرها عائلة الشهابيين، التي لم تُحافظ على دينٍ واحد؛ إنما تحوَّل بعض أمرائها من الإسلام إلى الدرزية، ومن الدرزية إلى المارونية[17]، وهكذا في ميوعةٍ عقائديَّةٍ عجيبة، وهذا زاد من تعقيدات العلاقات في جبل لبنان آنذاك، وفي لبنان إلى اليوم.
كان الأمر قد انتهى في قيادة الجبل إلى بشير الشهابي كما مرَّ بنا، والذي تولَّى الحكم منذ عام 1788م[18]. رأينا أن بشير الشهابي كان متردِّدًا في ولائه للدولة العثمانية؛ فكان معهم تارة، ومنفردًا بنفسه تارةً أخرى، ومتعاونًا مع أعداء الدولة تارةً ثالثة. كان يُمثِّل البرجماتيَّة في أوضح صورها! عندما ضمَّ محمد علي باشا الشام إلى مصر تعاون معه بشير الشهابي، وصار عاملَه في لبنان[19]. كان إبراهيم باشا (ابن محمد علي باشا) قائد الشام من أنصار القضاء على الإقطاع، والوقوف إلى جانب الفلاحين، وتحسين أوضاعهم، وذلك دون النظر إلى دينهم أو عرقهم. في ظلِّ هذا الأسلوب صادر بشير الشهابي -بناءً على أوامر إبراهيم باشا- أراضي الإقطاعيِّين في جبل لبنان، ومعظمهم من الدروز، وأعطاها للفلاحين، ومعظمهم من النصارى الموارنة، وهذا قَلَبَ الدروز ضدَّ المصريِّين، وجذب إليهم الموارنة[20]. بدأت الاحتكاكات تحدث بين الدروز والموارنة، وزاد من حدَّتها أن الإنجليز كانوا يدعمون الدروز، بينما يدعم الفرنسيون الموارنةَ [21][22]. هذا العامل الأخير يُعتبر من أكبر أسباب الفتنة؛ لأن الإنجليز أعداء الفرنسيين، وكلاهما يسعى لحرب الآخر على أيِّ أرض، وكانت الأرض اللبنانية مرشَّحةً لذلك بقوَّة.
عندما احتلَّ الإنجليز عام 1840م بيروت، وبقيَّة المدن الفلسطينية واللبنانية، وقع بشير الشهابي في الأسر، ثم النفي، وعاد إلى جبل لبنان زعماء الدروز الذين تركوه أيَّام الحكم المصري[23]. وفي ذلك الوقت عيَّن العثمانيُّون أحد الشهابيين التابعين لهم وهو بشير الثالث. كان هذا الأخير قد تحوَّل إلى المارونيَّة، واعتبره الدروز عدوًّا لهم، ولم يتمكَّن هذا القائد الجديد من الحدِّ من الخلافات بين الدروز والموارنة، حتى تطوَّر الأمر إلى حربٍ أهليَّة في عام 1841م. اضطرَّ العثمانيُّون إلى عزل بشير الثالث في ديسمبر 1842م، وتولية حاكم عثماني هو عمر باشا النمساوي (مسلم من أصول نمساويَّة) على جبل لبنان، ولكن هذا لم يوقف الفتنة[24].
تدخلت القوى الأوروبِّيَّة في الأمر، واضطرَّ السلطان عبد المجيد الأول في أول يناير 1843م إلى قبول اقتراح المستشار النمساوي ميترنيخ Metternich[25] بتقسيم جبل لبنان إلى مقاطعتين منفصلتين؛ الأولى شماليَّة يحكمها قائمقام مسيحي (قائمقام أي يقوم مقام الوالي)، والثانية جنوبيَّة يحكمها قائمقام درزي، وعُرف هذا النظام بنظام القائمقاميتين، وكان حاكماه يتبعان والي صيدا العثماني[26][27].
كان هذا التقسيم نظريًّا؛ حيث كانت القرى والمدن مختلطةً في الأغلب، وبالتالي لم تعزل الدروز عن الموارنة، بالإضافة إلى تنامي الصراع الطبقي بين الإقطاعيِّين والفلاحين، فأضاف هذا بعدًا جديدًا للفتنة بخلاف البعد الديني. -أيضًا- كانت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا يُذكِّيان روح العداء بين الفريقين لخلق سببٍ دائمٍ لوجود قوَّاتهما في المنطقة. فشل هذا النظام الجديد في درء الفتنة، وتجدَّد الصراع في 1859م، ثم تصاعد إلى مجازر حامية الوطيس في صيف 1860م، وانتشرت الحرب الأهليَّة خارج الجبل حتى وصلت صيدا، وزحلة، بل ودمشق[28]. قُتِلَ من الموارنة عشرة آلاف، ومن الدروز ألفان[29]. أرسل السلطان عبد المجيد الأول وزير خارجيَّته فؤاد باشا مع فرقةٍ من الجيش العثماني، وقد تمكَّن الوزير من قمع الفتنة، وإعدام عددٍ من المتسبِّبين في الحرب[30]، ولكن هذا لم يكن كافيًا لضمان عدم تكرار الفتنة قريبًا، ولهذا ضغطت الدول العظمى للتدخل في القضيَّة.
تألَّفت في سبتمبر 1860م لجنةٌ دوليَّةٌ من الدول الخمس كالمعتاد في هذه الفترة؛ بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، بالإضافة إلى الدولة العثمانية[31]، وكانت اللقاءات عاصفةً لأن كلَّ دولةٍ تريد حلَّ الأمر بالصورة التي تخدم مصالحها؛ فالإنجليز في صفِّ الدروز، والفرنسيون في صفِّ الموارنة، والدولة العثمانية لا تريد إخراج جبل لبنان من حوزتها. في النهاية، وبعد شهور، اتَّفقت اللجنة على «سلخ» لبنان من السيطرة العثمانية، وذلك عن طريق إنشاء «متصرفيَّة»، أي إمارة شبه مستقلَّة عليها متصرِّفٌ يتولَّى إدارتها، وهذه المتصرفيَّة ستشمل جبل لبنان كلَّه، ولن تدخل فيها المدن اللبنانيَّة الكبرى، كبيروت، وطرابلس، وصيدا، وصور، وجبل عامل، وسوف يتولى قيادة هذه المتصرفيَّة حاكم نصراني عثماني غير لبناني، وسيقوم السلطان عبد المجيد الأول بتعيينه، ولكن بموافقةٍ من الدول الخمس[32]، وكان المتصرِّف الأول هو الأرمني داود باشا[33].
هذا وقد صيغت طريقة إدارة هذا الكيان الجديد في وثيقةٍ عُرِفَت ببروتوكول 1861م، وفيها اتُّفِق على تكوين مجلس إدارة للمتصرفيَّة يساعد المتصرِّف في تسيير أمور الجبل، وكان المجلس يتكوَّن من اثني عشر عضوًا[34]؛ بحيث يكون هناك اثنان من كلِّ طائفةٍ دينيَّة (المارونية، الدروز، السنة، الشيعة، الأرثوذكس، الكاثوليك)، ومع ذلك فقد عُدِّلت هذه التقسيمة في عام 1864م حسب نسبة السكان فصارت أربعة من الموارنة، وثلاثة من الدروز، وثلاثة من الأرثوذكس والكاثوليك معًا، وواحدٍ من كلٍّ من السنة، والشيعة[35]. كانت المتصرفيَّة تتبع الباب العالي مباشرةً دون وسيطٍ من الولاة العثمانيِّين في لبنان أو سوريا، وكان عَلَمُها هو العلم العثماني، وتتعامل بالنقد العثماني كذلك، ممَّا يُشير إلى التبعيَّة للدولة، وإن حرصت الدول الأوروبِّيَّة على استقلال الكيان قدر الإمكان[36].
سيظلُّ هذا الوضع قائمًا إلى عام 1918، أي إلى نهاية الحرب العالمية الأولى[37].
كان تكوين هذه المتصرفية صورةً معبِّرةً عن التغلغل الأوروبي في تفاصيل إدارة الدولة العثمانيَّة؛ فلم يكن الأوروبِّيُّون يهتمُّون فقط بالولايات الكبرى، كمصر، وسوريا، واليونان، وصربيا؛ إنما يجتمعون بحدِّهم وحديدهم، لمناقشة أمرٍ يخصُّ فقط ثلث لبنان!
حرب القرم (1853-1856م):
كانت روسيا ترقب العلاقات البريطانيَّة العثمانيَّة بقلقٍ شديد، وتعلم أن الإنجليز لن يساعدوا العثمانيِّين إلا بهدف السيطرة على الدولة المتهاوية، وأنها -أي روسيا- إن لم تتحرَّك بشكلٍ عاجلٍ فإنها ستُفاجأ بضياع الدولة العثمانية كلِّها لصالح بريطانيا. أرادت روسيا استفزاز العثمانيِّين للحرب، وهي تعلم أن إمكاناتهم لا تسمح بمقاومتها. نعم يمكن للإنجليز أن يُشاركوا في المعارك ولكن هذا قد يكون متأخِّرًا بعد أن يكون الروس قد أخذوا ما يريدون.
استغلَّ الروس إعطاء العثمانيين فرنسا بعض الامتيازات الخاصَّة برعاية الأماكن المقدَّسة النصرانية في فلسطين، فاعترضت على ذلك، وأرسلت سفيرها للتباحث مع السلطان في شأن إعطاء حقوق مماثلة لروسيا في فلسطين، والتأكيد على مسألة رعاية روسيا للأرثوذكس في كلِّ الدولة العثمانية[38]. كانت المباحثات متشنِّجة، ومع ذلك طلبت بريطانيا من الدولة العثمانية الموافقة على طلب روسيا لتفويت فرصة الحرب عليها، ولكن الروس أثاروا مسألةً جديدة، وهي غلق المضايق أمام السفن الإنجليزيَّة، فلمَّا ماطل السلطان انسحب الروس من المفاوضات، وأغلقوا سفارتهم في إسطنبول، ومِنْ ثَمَّ أعلنوا الحرب على الدولة العثمانية في صيف 1853م[39][40].
بدأت الحرب في 3 يوليو 1853م[41] باقتحام خمسةٍ وثلاثين ألف مقاتل روسي للبغدان والإفلاق، ومِنْ ثَمَّ عبور الدانوب[42]! كان الجيش العثماني مستعدًّا في البلقان، وتمكَّن عمر باشا من توقيف مسيرة الجيش الروسي عند مدينة سليسترا Silistra البلغارية[43]. هجم الروس كذلك في القوقاز، واقتحموا شرق الأناضول، ولكن الجيش العثماني انتصر عليهم وأوقفهم بعد السيطرة على قلعة سان نيكولا[44]. كانت القوى الأوروبية تراقب الموقف، وكان الصمود العثماني أمام الغزو الروسي يُعطي الانطباع أن الدولة العثمانية يمكن أن تُحقِّق مهمَّة دحر الروس بمفردها، ومع ذلك أرسلت بريطانيا وفرنسا أساطيلهما إلى بحر إيجة قريبًا من الدردنيل ليكونا على استعدادٍ للتدخل وقت الحاجة[45]. صَدَقَ توقُّع الأوروبِّيِّين إذ تغيَّر الموقف في 30 نوفمبر لصالح الروس عندما تمكَّن الأسطول الروسي من حرق الأسطول العثماني في البحر الأسود عند ميناء سينوب Sinop شمال الأناضول[46].
كانت هذه الخطوة نقطة تحوُّلٍ في السياسة الأوروبية؛ إذ خشيت بريطانيا وفرنسا من احتلال الروس للدولة العثمانية، فاتَّفقا على بعث رسالة تحذيرٍ للإمبراطور الروسي نيكولاس الأول تحثُّه على إخلاء البغدان والإفلاق. رفض الروس التحذير، فعقد الإنجليز والفرنسيون معاهدة دفاع مشترك مع الدولة العثمانية، ثم في 28 مارس 1854م قامت الدولتان بإعلان الحرب على روسيا[47]، وعلى الفور دخلت السفن البريطانيَّة والفرنسيَّة إلى البحر الأسود، وبدا واضحًا أن العالم على أعتاب حربٍ مخيفةٍ بين الروس من ناحية، والإنجليز والفرنسيين، ومعهم العثمانيين، من جهةٍ أخرى.
كانت روسيا تعتقد أن النمسا ستقف إلى جوارها لسابق وقوف روسيا إلى جوارها في عام 1848م، منذ ستِّ سنوات فقط، أثناء قمع النمسا لثورةٍ في المجر[48]، ولكن النمسا كانت لها حساباتٌ أخرى؛ حيث كانت تخشى من التواجد الروسي في شرق أوروبا، فلم تتعاطف مع الغزو الروسي، واتجهت النمسا لاحقًا إلى مشاركة بريطانيا وفرنسا في الدفاع عن الدولة العثمانية، فعقدت معهما معاهدةً في مارس 1854م، ثم عقدت معاهدةً أخرى في أبريل مع بروسيا ضدَّ روسيا، وبعدها طلبت من روسيا سحب قوَّاتها من الإفلاق والبغدان لتمنع الحرب المرتقبة، فرضخت روسيا إزاء هذا الاجتماع الأوروبي، وسحبت قوَّاتها، ومِنْ ثَمَّ دخلت القوات النمساوية إلى الولايتين التابعتين للدولة العثمانية كقوَّات حفظ سلام إلى أن تنتهي الأزمة[49][50]. هذا الإنهاء للحرب في الدانوب لم يكن كافيًا لتوقُّف الحرب كلِّها؛ إذ وجدت بريطانيا وفرنسا الفرصة سانحةً لتدمير القوَّة الروسيَّة البحريَّة في البحر الأسود، ومِنْ ثَمَّ أكملتا المخطط دون توقف!
اختار الحلفاء أن يُوجِّهوا ضربتهم للروس في شبه جزيرة القرم، ووقع اختيارهم على ميناء سيڤاستوبول Sevastopol الاستراتيجي. قامت الأساطيل الإنجليزيَّة، والفرنسيَّة، والعثمانيَّة، بعمليَّة إنزال بري في القرم في 14 سبتمبر 1854م[51]، وبعدها بستَّة أيام -في 20 سبتمبر- انتصروا على الجيش الروسي في موقعة ألما Alma، وبات الطريق إلى سيڤاستوبول مفتوحًا[52]. تباطأ الحلفاء في حصار المدينة لأسبابٍ كثيرةٍ كان منها عدم القدرة على التنسيق الجيِّد بين الجيشين الإنجليزي والفرنسي، وكان منها انتشار الكوليرا في الجيش، وكثرة الإصابات في الجنود، بالإضافة إلى البرد القارس، وهكذا لم يستغل الحلفاء انتصارهم في ألما، وقد كلَّفهم هذا البطء عامًا كاملًا من الحصار للمدينة؛ حيث تمكَّن الروس من دعمها بالمؤن والسلاح[53][54].
في 17 فبراير 1855م حاول الروس تخليص مدينة إيوباتوريا Eupatoria على البحر الأسود، ولكنهم هُزِموا من الجيش العثماني هزيمةً كبيرة[55]، وتمكَّن الحلفاء بعد هذه الموقعة من السيطرة على المحاور التي تقود إلى سقوط سيڤاستوبول. مع أن الخسائر البشريَّة كانت قليلة في هذه المعركة إلا أن النصر الاستراتيجي كان واضحًا، وهذا رفع جدًّا من معنويَّات الجيش العثماني الذي حقَّق النصر، ولفت الأنظار إلى التقدُّم الذي حقَّقه في السنوات الأخيرة بعد التحديثات، ومع ذلك فيشهد المؤرِّخ الإنجليزي جاي أرنولد Guy Arnold أن هذا النصر أدَّى إلى تعمُّد الإنجليز والفرنسيين لتجاهل العثمانيِّين أثناء المعارك، وعدم إعطائهم واجباتٍ كبرى، لئلا يُنْسَب لهم النصر، ولئلا يشعروا بكينونتهم، وكانوا -أيضًا- يتعمَّدون عدم الاستجابة لنصائحهم العسكريَّة، ويُرْجِع المؤرِّخ الإنجليزي ذلك إلى كراهية الأوروبيِّين للأتراك على مدار السنين[56].
إن الإنجليز والفرنسيين لم يريدوا دفاعًا قط عن الدولة العثمانية، ولم يرغبوا في قيامها البتَّة، ولم تَصْفُ قلوبهم لها في لحظة، وغاية ما هنالك أنهم يريدون التهامها بمفردهم دون الروس، والحقُّ أن هذا ليس خطأهم؛ إنما خطأ الذين شجَّعوهم على التدخل في شئون المسلمين، واستعانوا بهم على الجيش المصري قبل ذلك، وظنُّوا أن الاتكاء عليهم أفضل من التسليم لمحمد علي باشا، وهذه هي النتيجة! عمومًا كان للنصر العثماني في إيوباتوريا أثر سلبي كبير على الروس، إلى الدرجة التي يعتقد فيها بعضهم أنه عجَّل بوفاة الإمبراطور الروسي المريض نيكولاس الأول، الذي مات في 2 مارس 1855، بعد أسبوعين من الهزيمة[57]، بل يعتقد بعضهم أنه انتحر لعلمه أن هذه الموقعة ستكون سببًا في سقوط سيڤاستوبول، ومِنْ ثَمَّ الخسارة أمام الحلفاء[58]! ومع أن احتمال الانتحار بعيد، وليس عليه أدلَّةٌ كافية، إلا أن هذا الافتراض يوضِّح مدى تقدير المؤرِّخين لهذه الهزيمة الكبيرة.
استأنف الإمبراطور الروسي الجديد ألكسندر الثاني Alexander II الحرب ضدَّ الحلفاء ولكن عزيمته كانت أقل. سقطت سيڤاستوبول في 9 سبتمبر 1855م[59]. هدأت وتيرة الحرب بعد سقوط المدينة الحصينة. كانت بريطانيا ترغب في إكمال الضغط على روسيا، بينما ارتأت فرنسا أن تنهي الحرب، أمَّا النمسا فقد سعت للوساطة بشروطٍ مجحفةٍ على الروس[60]. أخيرًا اضطرَّ الإمبراطور الروسي إلى الاعتراف بالهزيمة، وقبول الصلح مع الحلفاء، فاتُّفِق على عقد مؤتمر سلام في باريس الذي انتهى بتوقيع معاهدة باريس في 30 مارس 1856م[61].
كانت المعاهدة تهدف في مجملها إلى تحجيم قوَّة الروس، وتقوية الدولة العثمانية بالشكل الذي يُحقِّق توازن القوى في شرق أوروبا، وبالتالي يمنع روسيا من التضخُّم مستقبلًا على حسابها. كانت المعاهدة بمشاركة بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، والدولة العثمانية، بالإضافة إلى النجم الصاعد أوروبيًّا مملكة سردينيا[62]، التي ستصُبح لاحقًا مملكة إيطاليا. قضت المعاهدة بتجريد البحر الأسود من السلاح، ومنع روسيا من إنشاء ترسانات عسكريَّة في موانئ البحر، أو تسيير أيِّ سفينةٍ حربيَّةٍ فيه، وأعطت المعاهدة حقَّ إدارة المضايق للدولة العثمانية، وأعادت لها المدن التي أخذتها روسيا في الحرب، وفي المقابل أعادت قوات الحلفاء المدن الروسيَّة لها، شريطة عدم بناء تحصيناتٍ عسكريَّةٍ بها. أقرَّت المعاهدة باستقلاليَّة الدولة العثمانية، وسيادتها على أراضيها، وإن كانت قد أقرَّت بالحكم الذاتي للإفلاق والبغدان تحت رعايةٍ أوروبِّيَّة، مع بقائهما منفصلتين غير متحدتين. حدَّدت المعاهدة -أيضًا- القلاع التي يمكن للعثمانيين أن يستخدموها في صربيا، وكانت ستَّ قلاع شاملةً قلعة بلجراد. -أيضًا- نصَّت المعاهدة على حرِّيَّة الملاحة الدوليَّة في نهر الدانوب[63].
خرجت الدولة العثمانية منتصرةً في الظاهر؛ فهي لم تفقد شيئًا من أراضيها، وحقَّقت النصر العسكري في بعض المعارك، ومع ذلك لم يكن الأمر إيجابيًّا تمامًا! فالنصر الحاسم تحقَّق بدخول بريطانيا وفرنسا، وكان تدخلهما في الشأن العثماني سافرًا، وظهر ضعف الحكومة العثمانية البالغ الذي منعها من أخذ أيِّ قرارٍ يُعارض السياسة الأوروبِّيَّة، وخاصَّةً الإنجليزيَّة. -أيضًا- كانت الحرب عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا على الدولة. بالإضافة إلى ما سبق كان تدخل الدول الأوروبية في شأن الإفلاق والبغدان من الأمور الدافعة إلى استقلالهما لاحقًا، حيث برز عدم قدرة العثمانيين على الدفاع عنهما. أخيرًا كانت حرب القرم لافتةً لأنظار الروس إلى أن دولتهم وجيشهم يحتاجان إلى إصلاحٍ وتحديث، وهذا ما فعله الإمبراطور الجديد ألكسندر الثاني، وسيكون لهذا الإصلاح أثرٌ على العلاقة مع الدولة العثمانية لصالح الروس.
الأزمة الاقتصادية:
كان لا بُدَّ للضعف الذي تعاني منه الدولة أثرٌ اقتصادي! كانت الحروب الخاسرة التي دخلتها الدولة في عهد محمود الثاني سببًا في تدهور الوضع المالي لها. -أيضًا- كانت هناك أسبابٌ أخرى؛ كالسياسات الماليَّة المتأخِّرة، وضعف دراسات الجدوى، وقوَّة المنافسة الاقتصاديَّة الأوروبِّيَّة، والفساد المنتشر في أنظمة الدولة، واتفاقيَّة التجارة الحرَّة مع أوروبا التي أعفت البضائع الأوروبِّيَّة من الجمارك، فأثَّرت على الصناعات العثمانيَّة، لفارق الجودة والسعر. كلُّ ذلك أدَّى إلى سوء الوضع الاقتصادي، الذي تطوَّر إلى أزمةٍ كبرى، ثم جاءت حرب القرم لتُسبِّب العجز الحقيقي للخزانة؛ لتقوم الدولة -وللمرَّة الأولى في تاريخها- بالاقتراض من الخارج[64]!
في 25 أغسطس عام 1854م اقترضت الدولة ما يوازي مليونين ونصف مليون ليرةٍ ذهبيَّة من بنوك إنجليزيَّة لتسديد النفقات العسكريَّة، وفي عام 1855م كان القرض الثاني يوازي خمسة ملايين وستمائة ألف ليرةٍ ذهبيَّة، وخُصِّص -أيضًا- لتسديد النفقات العسكريَّة، وكان من البنوك الإنجليزيَّة كذلك. اضطرَّت الدولة إلى رهن ضرائبها الداخليَّة لضمان دفع قروضها لأوروبا، فخصَّصت ضريبة مصر السنويَّة ضمانًا لقرض 1854م، وخصَّصت ضرائب الشام وإزمير ضمانًا لقرض 1855م[65]. لم تكن هذه نهاية القروض في عهد السلطان عبد المجيد الأول، فقد اقترض ثلاث مرَّاتٍ أخرى؛ في 1858م، و1859م، و1860م[66]، وسنرى أن هذه السياسة ستستمر في عهود السلاطين القادمين. كانت معظم هذه القروض من بريطانيا، وإن كان هناك جانب -أيضًا- من البنوك الفرنسيَّة، وقد بلغت الديون في عهد عبد المجيد الأول أكثر من ستَّة عشر مليون ليرةٍ ذهبيَّة[67]. في الحقيقة كانت سياسة قبول فكرة القروض تعني واقعيًّا انتقاص السيادة العثمانية.
وصلت البلاد في عهد السلطان عبد المجيد الأول إلى حالةٍ من التدهور الاقتصادي لم تصل إليها قبل ذلك، وكانت السياسات الماليَّة التي بُذِلت فاشلةً إلى حدٍّ كبير، وكان منها إنشاء أوَّل بنك عثماني Ottoman Bank عام 1856م، ولكنَّه كان برءوس أموالٍ إنجليزيَّةٍ وفرنسيَّةٍ في الأساس، وكان مقرُّه الرئيس في لندن، وله فروعٌ في جالاتا بإسطنبول، وإزمير، وبيروت[68]، وكان منها -أيضًا- إصدار أوَّل عملةٍ ورقيَّة عام 1840م، وكانت في البداية مكتوبةً بخطِّ اليد ومختومةً من الدولة، ثم صارت مطبوعةً في عام 1842م[69]، كما نُظِمَّت أوَّل ميزانيَّةٍ عامَّةٍ حقيقيَّةٍ للدولة[70]. لم تنفع هذه الإجراءات في النهوض اقتصاديًّا بالدولة، وفي الواقع لم يكن الاهتمام بالجانب الاقتصادي ناضجًا في القوانين التي استُحدثت في عهد عبد المجيد الأول، كما أن الأعباء التي وضعتها حرب القرم على كاهل الدولة قضت على كلِّ آمال الخروج من الأزمة.
نظرة ختاميَّة على عهد عبد المجيد الأول:
كان السلطان عبد المجيد الأول مجتهدًا -في حدود إمكاناته- في النهوض بالدولة، لكنَّه كان يحكم -كما ذكرنا مرارًا- كيانًا منهارًا بالفعل، فكانت كلُّ نجاحاته لا تعني سوى مدِّ عُمْر الدولة فترةً أخرى دون قوَّةٍ ولا مجد. كان له اجتهادٌ خاصٌّ في مجالات الحقوق والقوانين، ولكنَّ الضعف العام الذي عانت منه الدولة، والضعف الشخصي له نفسه، لم يجعل لإنجازاته أثرًا بارزًا في مستقبل الدولة. تسلَّطت في عهده الدول الأوروبِّيَّة -وخاصَّةً بريطانيا- على السياسة العثمانية، ولم يكن له القدرة على مقاومتهم، وسارت الدولة من أزمةٍ إلى أخرى، وكانت آخرها الأزمة الماليَّة الكبرى، التي أدَّت إلى أوَّل قرضٍ في تاريخ العثمانيِّين، ومِنْ ثَمَّ الوقوع في فخِّ الاستعمار الاقتصادي، تمهيدًا للاستعمار العسكري الكامل.
مات السلطان عبد المجيد الأول فجأة، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وذلك في 26 يونيو 1861م[71]، ليصعد إلى العرش أخوه الأصغر الأمير عبد العزيز[72].
[1] الرافعي، عبد الرحمن: عصر محمد علي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 2001م.صفحة 289.
[2] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م.صفحة 405.
[3] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 291.
[4] Lewis, Bernard: The Emergence of Modern Turkey, Oxford University Press, London, UK, 1962., pp. 103-104.
[5] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 402.
[6] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. الصفحات 480-489.
[7] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 الصفحات 407-413.
[8] Hurewitz, J. C. (Editor): The Middle East and North Africa in World Politics: A Documentary Record, Compiled and Translated: J. C. Hurewitz, D. Van Nostrand Company, New York, USA, 1956., vol. 1, pp. 113-116.
[9] عوض، عبد العزيز محمد: الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864-1914، دار المعارف، القاهرة، 1969م. صفحة 22.
[10] أورطايلي، إيلبر: النظم الإدارية في عهد التنظيمات الخيرية وما تلاه، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 1/330.
[11] Lewis, 1962, p. 109.
[12] عوض، 1969 صفحة 24.
[13] Davison, Roderic H.: Reform in the Ottoman Empire, 1856-1876, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, USA, 2015., pp. 40-41.
[14] نوار، عبد العزيز سليمان: تاريخ الشعوب الإسلامية في العصر الحديث، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م. صفحة 168.
[15] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lxiv.
[16] ميساس، أكيل: التعريبات الشافية لمريد الجغرافية، مطبعة بولاق، القاهرة، 1834م. صفحة 153.
[17] سويد، ياسين: فرنسا والموارنة ولبنان: تقارير ومراسلات الحملة العسكرية الفرنسية على سوريا (1860-1861)، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 1992م.صفحة 256.
[18] جحا، شفيق؛ وعثمان، بهيج؛ والبعلبكي، منير: المُصوَّر في التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، 2017م. صفحة 7/127.
[19] أرسلان، شكيب: مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه 1800 – 1950 بحسب التسلسل الزمني، إشراف وتحرير: يوسف حسين إيبش، توما توفيق عريضه، يوسف قزما خوري، الدار التقدمية، الشوف-لبنان، الطبعة الثانية، 2011م. صفحة 19.
[20] جحا، وآخرون، 2017 الصفحات 7/161-168.
[21] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 399.
[22] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م. صفحة 154.
[23] جحا، وآخرون، 2017 الصفحات 7/161-168.
[24] بازيلي، قسطنطين ميخالوفيتش: سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي من الناحيتين السياسية والتاريخية، مراجعة: منذر جابر، ترجمة: يسر جابر، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1988م. صفحة 375.
[25] Harris, William: Lebanon: A History, 600-2011, Oxford University Press, New York, USA, 2012., p. 151.
[26] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 399.
[27] لوتسكي، 1985 صفحة 155.
[28] Farah, Caesar E.: The Politics of Interventionism in Ottoman Lebanon, 1830-1861, I.B.Tauris, London, UK, 2000., p. 564.
[29] Fawaz, Leila Tarazi: An Occasion for War: Civil Conflict in Lebanon and Damascus in 1860, I.B.Tauris, London, UK, 1995., p. 320.
[30] سرهنك، 1895 صفحة 1/705.
[31] لوتسكي، 1985 صفحة 164.
[32] جحا، وآخرون، 2017 الصفحات 7/203-206.
[33] Ayvali, Gülsün: An Awkward Case of Conversion on Crete, In: Hazai, György: Archivum Ottomanicum, Harrassowitz Verlag, Wiesbaden, Germany, Volume 26, 2009., vol. 26, p. 239.
[34] لوتسكي، 1985 صفحة 165.
[35] لوتسكي، 1985 الصفحات 165، 166.
[36] جحا، وآخرون، 2017 الصفحات 7/203-206.
[37] Akarli, Engin Deniz: The Long Peace: Ottoman Lebanon, 1861-1920, University of California Press, California, USA, 1993., p. 174.
[38] طوسون، عمر: الجيش المصري في الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم 1853-1858، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1416هـ=1996م (ب).الصفحات 45، 46.
[39] فريد، 1981 الصفحات 494، 495.
[40] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م. صفحة 388.
[41] برون، جفري: تاريخ أوروبا الحديث، ترجمة: علي المزروقي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان–الأردن، 2006م. صفحة 503.
[42] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1990 صفحة 2/48.
[43] Badem, Candan: The Ottoman Crimean War: (1853–1856), Brill, Leiden, Netherlands, 2010., pp. 101-109.
[44] فريد، 1981 صفحة 497.
[45] Sondhaus, Lawrence: World War One: The Global Revolution, Cambridge University Press, New York, USA, 2011., p. 57.
[46] Mikaberidze, Alexander (Editor): Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (A).vol. 2, p. 837.
[47] Lambert, 2011, pp. 94, 97.
[48] فريد، 1981 صفحة 496.
[49] سنو، عبد الرؤوف: العلاقات الروسية – العثمانية (1687 - 1878): حرب القرم (1853 - 1856)، مجلة تاريخ العرب والعالم، دار النشر العربية للدراسات والتوثيق، بيروت، العددان 77-78، الجزء السابع، 1985م (أ). صفحة 37.
[50] كامل، مصطفى: المسألة الشرقية، مطبعة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1898م. الصفحات 124، 126، 127.
[51] طوسون، 1996 (ب) صفحة 188.
[52] Figes, Orlando: The Crimean War: A History, Henry Holt and Company, New York, USA, 2010., p. 216.
[53] فشر، هربرت. أ. ل.: تاريخ أوروبا في العصر الحديث (1789-1950)، ترجمة: أحمد نجيب هاشم، وديع الضبع، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 1972م. صفحة 224.
[54] Sweetman, John: The Crimean War: Essential Histories, Osprey Publishing, Oxford, UK, 2001., p.89.
[55] Clodfelter, Micheal: Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Encyclopedia of Casualty and Other Figures, 1492-2015, McFarland & Company, Inc., Publishers, Jefferson, North Carolina, USA, Fourth Edition, 2017., p. 179.
[56] Arnold, Guy: Historical Dictionary of the Crimean War, The Scarecrow Press, Lanham, Maryland, USA, 2002., p. 147.
[57] Radzinsky, Edvard: Alexander II: The Last Great Tsar, Translated: Antonina W. Bouis, Free Press, New York, USA, 2005., p. 96.
[58] Kapustina, Tatiana Aleksandrovna: Emperor Nicholas I, 1825-1855, In: Raleigh, Donald J. & Iskenderov, Akhmed Akhmedovich: The Emperors and Empresses of Russia: Rediscovering the Romanovs, M. E. Sharpe, New York, USA, 1996., p. 292.
[59] برون، 2006 صفحة 507.
[60] فشر، 1972 الصفحات 224، 225.
[61] كولن، 2014 صفحة 291.
[62] Rozakis, Christos L. & Stagos, Petros N.: The Turkish Straits, Martinus Nijhoff Publishers, Leiden, Netherlands, 1987., 1987, p. 85.
[63] Hurewitz, 1956, vol. 1, pp. 153-156.
[64] Badem, 2010, pp. 304-305.
[65] Göçek, Fatma Müge: Rise of the Bourgeoisie, Demise of Empire: Ottoman Westernization and Social Change, Oxford University Press, New York, USA, 1996., p. 49.
[66] Owen, Edward Roger John: The Middle East in the World Economy, 1800-1914, I. B. & Co. Ltd, London, UK, 2009., p. 104.
[67] Hozier, Henry Montague: The Russo-Turkish War: Including an Account of the Rise and Decline of the Ottoman Power, and the History of the Eastern Question, William Mackenzie, London, UK, 1877., vol. 1, p. 61.
[68] Cottrell, Philip Leonard: Investment Banking in England, 1856-1881: A Case Study of the International Financial Society, Routledge, New York, USA, 2012., vol. 1, p. 93.
[69] Heper, Metin; Öztürk-Tunçel, Duygu & Criss, Nur Bilge: Historical Dictionary of Turkey, Rowman & Littlefield, Lanham, MD, USA, Fourth Edition, 2018., p. 128.
[70] عوض، 1969 صفحة 28.
[71] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 401.
[72] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 1080- 1094.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك